المسكوت عنه من مُحددات الصحة النفسية
(بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية 2021)
د. أحمد كساب الشايع
أستاذ علم النفس المرضي المشارك
قسم علم النفس – جامعة الملك سعود
الصحة النفسية في عالم غير متكافئ
جاءت حملة اليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام 2021 بعنوان: "الصحة النفسية في عالم غير متكافئ – Mental Health in an Unequal World". وهذا عنوان لمنطقة مهمة قلما يُنتبه لها في أغلب بلدان العالم، على اختلاف أنظمتها الصحية، وممارسيها، وباحثيها، وصناع القرار فيها. وهي منطقة تُغري، لأهميتها، بالحديث عنها قليلاً.
درج جُل مهنيي الصحة النفسية وباحثيها على النظر للصحة النفسية والاضطراب النفسي من خلال الفرد ذاته. فقد يختلفون، باختلاف توجهاتهم العلمية والمهنية، في تفسيرهم لهذه الظواهر كل الاختلاف، إلا أن ما يجمعهم كل الاجتماع هو أنهم يُعزون الصحة النفسية ونقيضها إلى شيء ما متضرر داخل الفرد. فهو إما تضرر في كيميائية الدماغ، أو في العمليات الذهنية، أو السلوكية...الخ. المهم أن هناك عطب ما، وأن محل هذا العطب هو الفرد ذاته. صحيح أن هذا التوجه بالنظر للفرد ذاته كمصدر محتمل لأصل العطب توجهٌ لا يخلو من صحة، إلا أنه منقوص وغير كاف بالضرورة. وهذا ما يمكن القول إن عنوان اليوم العالمي للصحة النفسية لهذا العام يذكرنا به، لعلنا نفطن إلى ما آنسنا غض الطرف عنه وتجاهله، بالرغم من جوهريته.
للصحة النفسية، وكذا الخلل النفسي، محددات كثيرة. يمكن، بشيء من المجازفة العلمية، القول بأنها تُصنف إجمالاً إلى فئتين: كبرى Macro وصغرى Micro. تتضمن فئة المحددات الصغرى تلك التفسيرات والعمليات والمحددات التي تتم على مستوى الفرد ذاته، أياً كان مستواها؛ فيما تتضمن الكبرى تلك المحددات التي تقع ضمن نطاقات أوسع من نطاق الفرد ذاته، وغالباً لا تقع ضمن تأثيره الخاص. ومن ذلك، مثلاً لا حصراً، العوامل الاقتصادية كالفقر والتضخم والبطالة وانعدام الاستقرار الوظيفي؛ والمجتمعية كالحراك الاجتماعي والتغير الاجتماعي والطبقة الاجتماعية؛ والسياسية كالحروب والهجرة وانعدام الاستقرار السياسي؛ والبيئية كتلوث الهواء والاحتباس الحراري وانحسار الغطاء النباتي؛ وتنظيمية كتلك الخاصة بمؤسسات الصحة النفسية وأنظمتها وثقافاتها التنظيمية. هذه كلها عوامل مهمة عند النظر للصحة النفسية والخلل النفسي، سواءً لأغراض العمل النفسي العيادي، أو البحثي، أو عند التخطيط لخدمات الصحة النفسية من قِبل صناع القرار. وهي، بالتالي، مما يُفسر عدم تكافؤ الفرص في الاستفادة من خدمات الصحة النفسية، العلاجية والوقائية؛ الأمر الذي قد يقود إلى تشكل الاضطراب النفسي أو تفاقمه أو استمراره لدى المصابين.
والحق أن هذه العوامل الكبرى كانت دائماً حاضرة، تُطل برأسها على الجميع، ألا أن الغالبية يرونها ولا يعوها. مُقيدي الوعي بما تعلموه ودُربوا عليه. لطالما التقى مهنيي الصحة النفسية بمراجعين تبدو شكواهم النفسية مفهومة تماماً على ضوء ظروف حياتهم الأسرية أو الاجتماعية...الخ. حتى لتغدوا الشكوى النفسية حتمية، ويغدو عدم ظهورها هو المستغرب لو لم تظهر. بعض الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية تعمل بالفعل كحاضنات للخلل النفسي. توفر كل أو جُل ما يحتاجه الاضطراب النفسي حتى ينمو ويتفشى ويزدهر. هذه ليست محض تخرصات أو تنبؤات عجلى، أبداً. فعلى سبيل المثال، هناك شواهد علمية متراكمة على أن الاضطراب النفسي ينتشر في البيئات الفقيرة بمقدار أعلى من انتشاره في البيئات الأكثر حظاً في اقتصادها. عموماً، هذا موضوع واسع أشارت له عدد من المؤسسات العلمية والمهنية، وأوردته عدد من الكتابات التخصصية؛ إلا أنه من الأفضل عدم الإسهاب فيه هنا لدواعي المساحة.
عودةً على عنوان يوم الصحة النفسية، فإن ما يكرس عدم التكافؤ المشار إليه هو غالباً هذه العوامل الكبرى، إن بالتفاعل مع العوامل الصغرى التي تحدث داخل الفرد، أو بشكل مستقل. ولذا، فمن الضروري إحاطتها بما تستحقه من عناية واهتمام على كافة المستويات: التخطيط للصحة النفسية أو العمل النفسي البحثي، أو العمل النفسي العيادي.
فمن ناحية وضع الخطط قصيرة أو طويلة الأمد لتنظيم قطاعات وخدمات الصحة النفسية، ينبغي أن توضع الخطط وقد أُخذت العوامل الكبرى (الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والبيئية والثقافية) بعين الاعتبار. ومن ذلك مثلاً، أن توزع الموارد المالية والبشرية المتاحة بين الأماكن المختلفة وفقاً للتفاوت الاقتصادي بين هذه الأماكن، فكلما كان مكانٌ ما أقل حظاً من الناحية اقتصادية، كان حريٌ به أن يخصص له قدر أعلى من الموارد. والأمر سيان فيما يتعلق ببقية هذه العوامل الكبرى. ومن الناحية البحثية، فمن الضروري تصميم أبحاث متعددة التخصصات Multidisciplinary تسعى لفهم الخلل النفسي من منظور أوسع. وللوفاء بهذا المطلب، هناك حاجة قائمة وملحة لوضع أُطر نظرية علمية تقدم الخلل النفسي على أكثر من مستوى، وتقترح فهماً له على ضوء هذه المستويات. لتُشتق منها فرضيات حول محددات الخلل النفسي المختلفة، يجري اختبارها إمبريقياً. أما على المستوى العيادي، فحريٌ بالممارسين الصحيين النفسيين أن يُعنوا بهذه العوامل الكبرى بقدر عنايتهم بالعوامل الصغرى، حريٌ بهم، مثلاً، أن يسبروا ظروف المراجع المجتمعية والأسرية والاقتصادية...الخ، وأن يجهدوا لتفحص ما إذا كان لهذه الظروف دور ما في تشكل أو تفاقم أو استمرار المشاكل النفسية لدى مراجعيهم. صحيحٌ أنه ليس بمقدورهم دائماً تعديل هذه الظروف، إلا أن الإحاطة بها وبدورها يعينهم على فهم مشاكل مراجعيهم بشكل أدق، ما سيسهم غالباً في تحسين نتائج عملهم مع هؤلاء المراجعين. وعيادياً أيضاً، ينبغي أن تتضمن أنشطة التدريب والتعليم المستمر برامجاً تعزز من قدرة الممارسين على الانتباه لدور العوامل الكبرى، واخذها بالاعتبار عند وضع الخطط العلاجية.
هذا كله بغرض التقليل من عدم التكافؤ في الاهتمام بمحددات الصحة النفسية، وصولاً إلى صحة نفسية أفضل للجميع. حفظ الله الجميع.