العلاج ما وراء المعرفي: 

رحلة استكشاف لطبيعة الفكرة


ترجمة: مرام الراشد

أخصائي نفسي إكلينيكي مساعد

العلاج ما وراء المعرفي هو شكل جديد من اشكال العلاج النفسي التي لا تركز على تحديد الفكرة وتغييرها كما يحدث في العلاجات المعرفية المعتادة ولكن عوضاً عن ذلك تبحث في طبيعة الفكرة ذاتها.

يقصد بمصطلح (ما وراء المعرفي) هو التفكير حول التفكير


هو نوع من العلاجات النفسية الذي يمتلك جانب من جوانب الادراك التأملي في العقل البشري. حيث يتناول سؤال لطالما تفكرت به العقول منذ بزوغ قدرة الانسان على التفكير والتأمل بمن فيهم أولئك الفلاسفة القدماء، الذين تسائلوا حول.. "من أنا؟" أو "ما هو العقل" أو "ما هي الأفكار؟".

ومن يدير اليوم دفة (ما وراء المعرفي) هو المعالج النفسي وذلك بتطبيقه لمبادئ هذا العلاج على الصحة النفسية ومشاكلها. العلاج ما وراء المعرفي هو أسلوب علاج نفسي نمى حديثاً والذي يبحث في طرق تفسيرنا لأفكارنا ومعتقداتنا وكيفية عمل العقل.

هذا المنهج العلاجي أعمق من استراتيجيات العلاج المعرفي السلوكي المعتادة مثل (إعادة الهيكلة المعرفية) أو إعادة الصياغة والتي تركز على أساليب التعرف على أنماط التفكير ومحاولة تغييرها. 

ولكن بدلاً من محاولة تغيير أفكارنا، يخبرنا العلاج ما وراء المعرفي كيف نبحث في طبيعة الفكرة والذي يستهدف في الحقيقة فهم أوسع للطريقة التي تعمل بها عقولنا.

في هذه المقالة سوف نتطرق الى المبادئ الأساسية خلف العلاج (ما وراء المعرفي) في محاولة للتوصل الى مفهوم أفضل حول كيف تعمل عقولنا:


ما وراء المعرفي : مبادئ أساسية


هنا بعض الاضاءات للإجابة على السؤال: كيف تعمل عقولنا؟ 

كلما استطعنا استيعاب هذه المبادئ كلما تحسن تعاملنا مع افكارنا وبالتالي انعكس ذلك ايجابياً على صحتنا النفسية.

  • لا يمكنك السيطرة على كل فكرة تراودك:

    إحدى أهم المفاهيم حول العقل ووظائفه هي ببساطة أن الانسان ليس لديه قدرة على التحكم بكل فكرة تطرأ عليه. في الواقع اغلب أبحاث علم النفس تتفق على أن السواد الأعظم من تفكيرنا (80%) يتم بشكل تلقائي ودون وعي، بمعنى أننا لا نعير انتباه كبير أو نشارك بكل عملية تفكير تجري في عقولنا. فعقولنا تسرح وتتخيل وتعيش أحلام يقظة وتجتر الأفكار طوال مدة استيقاظنا.

    لو جربت يوماً التأمل (meditation) فستعلم يقيناً أنك لست المسيطر على ما يجول في ذهنك. الأفكار تطرأ وتتقافز في رأسك دون سبب. وهذا جُل ما تفعله الأفكار عادة.

    لذا كان حتماً عليك إفلات هذه الرغبة بالسيطرة الكاملة على التفكير لأنها تُعلمك بأنه بعد اليوم ليس عليك لوم نفسك وجلدها على كل فكرة او شعور يراودك. وهو بالتأكيد ما تحتاجه لكي تسمح لنفسك في أن تتقبل أفكارك دون الشعور بالحاجة الملحة لتغييرها والتخلص منها. 

    في العلاج ما وراء المعرفي يتم وصف هذه العملية السابقة ب (الوعي الذهني المنفصل أو المستقل) “detached mindfulness. وهو ما يتم فيه ملاحظة الأفكار وتقبلها دون التشبث بها او اعتبارها أمر جدي وواقعي يحتاج للتركيز والانتباه والتحليل.

    بالطبع نحن لم ننسى أيضاً الجزء الأهم المتبقي من التفكير 20 % وهو الذي نكون فيه منخرطين بالتفكير الواعي. في هذه اللحظات بالتحديد يمكننا الإحساس ببعض السلطة والتحكم على سير تفكيرنا وهو ما يحدث عندما نحاول تغيير العادات الذهنية المزعجة وحل المشكلات ويعتبر أرض خصبة للعلاجات المعرفية المعتادة.

    على العموم، قدرتك على تقبل السيطرة المحدودة على أفكارك هو ما يعينك على تخطي الرغبة الملحة بالتحكم ويُسقط عن كاهلك مسؤولية تغيير الأفكار المزعجة التي تقتحم وعيك وتشعرك بالاستياء وهذا التقبل يعكس قوة بحد ذاته.

  • الأفكار مؤقته:
    الجانب الاخر المهم من العقل أن ما يطرأ عليه من أفكار إنما هي لحظات آيله للرحيل. ومثلما تظهر دون سبب فهي أيضاً تتلاشى وتختفي بنفس الطريقة. مثلاً عندما ينشغل الذهن بسلسلة من الأفكار سيصل بالنهاية الى سلسلة أخرى من الأفكار المختلفة عما قبلها وهي تشبه الى حد كبير طبقات الظلال التي تغطي وتخفي بعضها البعض.. فنحن ننسى ما كنا نفكر به قبل لحظات اذا لم نركز عليه وقبل أن نتذكر وننتبه لذلك، نكتشف أن عقولنا قد سافرت بنا في رحلة أخرى الى مكان أخر.


استيعاب هذه الفكرة هو عنصر أساسي يعلم الانسان بأنه ليس عليه فعل أي شيء كردة فعل تجاه هذه الأفكار المؤقتة لأنها في النهاية ستتلاشى من تلقاء نفسها. لذا سيكون شعارنا هنا "هذا الأمر سيمضي ايضاً" وهو ما علينا تكراره بوضوح لأنفسنا حينما نمر بأفكار ومشاعر أو أحداث مزعجة. لأنه ببساطة إن كنت صبوراً بما يكفي ستتمكن من تجاوز الأفكار والمشاعر المزعجة دون أن تغذيها من طاقتك الذهنية ووقتك الثمين.


هناك بعض التشبيهات التي تساعد في وصف التغير الدائم في العقل وكيف يعمل. ومن الأمثلة المفضلة لدي حول عملية التفكير:

لا يمكن للمرء أن يخطو مرتين في نفس النهر

-في جريان مياه الأنهار المستمر تشبيه لعملية التفكير حيث يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: 

(لا يمكن لرجل أن تقع قدميه على بقعة المياه ذاتها في نهر مرتين.. إما أن يكون نهر أخر أو رجل أخر). 

وما يُقصد به هنا هو (أن مياه النهر متدفقة وجارية وفي كل مرة تنزل فيها النهر فأنت تنزل في مياه مختلفة عن المياه الأولى التي نزلت بها وفي الحقيقة أنت تنزل في نهر جديد وإن نزل أحدهم في نفس المياه الأولى فسيكون بالتأكيد شخصاً أخر) عقلك يغوص في سلاسل لا تتوقف من الأفكار المتنوعة التي سيكون من المستحيل أن تتكرر عليك بنفس الطريقة مرتين.

 

"مرور السحاب في السماء"

كل الأمثلة السابقة تدل على عدم ديمومة الحال. وهكذا افكارنا دائماً في حركة مستمرة وتغير وتحول دائم مثلما تمر السحاب مروراً في السماء وتجري مياه الأنهار دون توقف.

تكمن هنا الفكرة خلف هذه التشبيهات التي تخبرك بأنك إذا استطعت أن تتقبل طبيعة عقلك فإنه سيكون من السهل عليك التخلي عن أي أفكار سلبية تلقائية تطرأ على سطح وعيك دون أن يكون لها سطوة وتأثير عليك، فقط دعها تمر وتمضي في طريقها.


  • العقل أداة عصف ذهني بامتياز

أحد أهم العناصر في العلاج ما وراء المعرفي هي في فهم لماذا ظهر التفكير بدايةً؟

من منظور علم النفس التطوري يعتبر الهدف من التفكير هو لاستيعاب العالم حولنا والتكيف مع بيئتنا المحيطة. وقوة الفكرة تظهر انعكاساتها على التطور في الأدوات والتقنيات والعلم والطب. وبالتأكيد دون قدرتنا على التفكير (والتي وهبها لنا الخالق ومَن علينا بها) لما استطعنا أن نصل لما وصلنا عليه اليوم. 

عقولنا أجهزة عصف ذهني مستعدة دائما للبحث عن طرق حل المشكلات وتحسينها.

لكن على الجهة الأخرى يستهلك العقل جزء من هذه القدرة في التفكير المفرط (الاجترار) وهو ما يعتبر مشكلة عند أولئك الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق. عقولهم تحاول تحديد المشكلات التي تطرأ على حياتهم والحلول المناسبة لها.

يشمل ذلك ما يظهر في أحلامنا من سيناريوهات ونظريات تختلقها عقولنا من تزاوج الأفكار وما ينتج عنها من تفسيرات. وكل ذلك يحدث لتحقيق هدف واحد وهو للتعلم من التجارب واستيعابها ومحاولة لمعالجة هذه المعلومات وتخزينها. فهم طبيعة عقولنا مهم في تسليم دفة القيادة أحيانا له، لما في ذلك من فوائد ذهنية مثل الأبداع وحل المشكلات وهو ما نلاحظه عند السرحان وأحلام اليقظة.


أعط عقلك الإذن ليجوب الأفاق ويتجول.

بالإضافة لما سبق هنالك العديد من التمارين التي يمكننا تجربتها لتغيير مسار التجول العقلي الى مسار مفيد وبناء. مثل تمرين الاستنزاف العقلي، حيث يقوم الشخص بكتابة كل فكرة تراوده حرفياً خلال مدة من 10-15 دقيقة وهو ما يشبه ايضاً محاولة كتابة الأفكار في "ماراثون الأفكار المقلقة (الهم) "worry, حيث تسمح لعقلك بأن يسرح في الهم بقدر ما تحدده في مدة زمنية معينة يومياً.

هذه التمارين تسمح لعقولنا للارتجال بطريقة أمنة وصحية.


  • انت لست أفكارك.. أنت تعتبر كالمشاهد لها.

    هذه الإضاءة الأخيرة مهمة جداً: أنت لست أفكارك.

    عادة أفكر بالعقل ك " صندوق اقتراحات" أملك حق التصويت ب "نعم" أو "لا" لأي فكرة تطرأ. والأهم من ذلك أنني المسؤول في هذه العملية وأنا من يحدد في النهاية طريقة الاستجابة لأفكاري وأفكاري ليست هي من يتولى هذه المهمة.

    ولكن ما يستولي على تفكيرنا عادة هو الرغبة بالإرادة الحرة على عقل الانسان وهو ما نقصد به قدرة الشخص على التحكم فيما يفكر وما يتبعه من فعل ولكن على الأحرى هذا يتعارض مع المفهوم المتوازن الذي تناولناه خلال هذه المقالة سوياً وهو ما يتضمن طبيعة العقل وطريقة عمله ويمكننا أن نطلق بديل مناسب وهو ما يمكننا تسميته "بالتقييد الحر" فأنا حرة في اختيار ما اتقيد والتزم به واحاول تغييره وما لا أستطيع السيطرة عليه.

    وهنا نقول أن العقل يرمي بسنارة أفكاره فكرة تلو الأخرى بعد ذلك يختار الشخص من هذه الخيارات المتعددة ما يرغب أن يستمر التفكير به. ويمكنك دوماً الإجابة بالرفض على الأفكار الحالية ومن ثم البقاء وانتظار ظهور الفكرة التالية (مع الاخذ بعين الاعتبار ما قدمناه سابقاً من دروس في عدم الديمومة).

                 "التقييد الحر" هو ما تتمثل به القوة الحقيقية للاختيار.

وهو مرتبط بالنموذج الثنائي للإرادة الحرة، حيث تحدث المرحلة الأولى من هذه النظرية في اللحظة  التي تطرأ الفكرة على سطح الوعي، والمرحلة الثانية تكمن في اختيار الفرد لما يريد الاستجابة له.

أول من اقترح هذه النظرية هو المعالج النفسي William James ومنذ ذلك الحين أصبح العديد من المفكرين والفلاسفة البارزين يرددونها مثل Daniel Dennett and Karl Popper.

 إحدى التمارين المهمة في هذا الجانب هي استراتيجية mindbus والفكرة الأساسية خلفها هي أن تتخيل نفسك كسائق باص والركاب هم الأفكار والتي تحمل كل منها شخصية مختلفة ويمكنك تخيل إيصال كل فكرة على حدة الى وجهتها المناسبة. هذا التمرين يلخص الدرس الجوهري خلف مفهوم ما وراء المعرفي: أنت لست أفكارك، ولكن أنت المشاهد والملاحظ لهذه الأفكار.

الملخص

التفكر في مبادئ العلاج ما وراء المعرفي مهم جداً، فهي لا تكتفي بتعليمنا كيف تعمل عقولنا ولكنها تبني أيضا الأسس لأنواع أخرى من العلاج المعرفي والاستراتيجيات المناسبة لإعادة الهيكلة المعرفية.

رسالة إمعان

لن تكون الظروف الملائمة دائما على أكمل وجه وليس عليك ان تنتظر حتى تكون كذلك.. فتأجيل ما يسعدك الى وقت اخر قد لا تكون فكرة جيدة وتذكر، عليك أن تعطي كل لحظة وتجربة حقها من الاهتمام والاحتفاء وبالأخص تلك التي تسعدك..  

https://www.theemotionmachine.com/metacognitive-therapy-exploring-the-nature-of-thought/